11/01/2011 يوم نكبتي والمنكوبون عدة ... ....وأنا كسنبلة قمح مستتبة قمة جبال" تشاكشت" تنتظر فرج العطلة لتنعم ببعض الراحة إلى جانب ذويها وهي تشاطرهم ذكريات المنفى الجميلة منها والمؤلمة.... وأنا في فيض عالم الخيال أسطر برامج وأحلام عجز واقعي عن تحقيقها, تلقيت اتصالا هاتفيا لم أعد أتذكر صاحبه إلى يومنا هذا, و بلهجة ملأها القنوط والمرارة :والدك مات... مات ...مات ....لم أتمالك نفسي وأنا أسمع هذا الخبر الذي عصف بسويداء دواخلي....مأساة كانت أكثر من موجعة ,بل و كافية لتوقفني بلا عزم وتزعزع كياني عن الثبات والهمة. لم ينفع ندبي ورثائي, فأندائي لم تروي غلي ولم تطفئ جمر حرقتي ومصابي, ونواحي لم يعد قادرا على إخراس صرخات أضلعي التي أصابها الهيجان ....فالخبر كان كالعاصفة التي مزقت ريحه شراع هدوئي وسكينتي ,وكسرت جناح خلدي أن صرت كالمجنون الهائج أتمرغ البساط وألثم الأديم طلبا لرحمة القدر أن تعيد لي أبي ....أعلم أنه لا يجدر بي الإعراض عن نصيب كتبه الرحمان في لوح محفوظ... لكنني أمة ضعيفة الحيلة ...عديمة القدرة... تمنت لو أزالت بجسدها ظلال الموت عن روحه , وضعت صورة لوالدها لحظ عينيها أن شخصت عيناه تحدق إلى ما لا يُرى, وحشرجة الموت تعانق صوته وهو يحتضر... لم أتقبل منظر قسمات وجهه في مخيلتي وقد علت محياه صفرة ...اعتدت وجها بشوشا...اعتدت كفين ترفعان نحو السماء تدعوان لي بالستر , وذارعين تبسطان كلما أقبلت نحوه أعانق فيه حبا افتقدته وأنا أرابط بالجبال ...فرغم السقام الذي ألم به أبَى إلا أن يبقى سندا يؤم أهل بيته المكون من خمس إناث وذكرين لا يقوى أحدهما عن رفع الأذى عن الأخر بسبب عوزهما للشدة والثبات. فرغم الشحوب الذي بات ظاهرا على وجهه, وقواه التي خارت وضعفت بسبب الأدواء التي خلفها بجسده ذاك المرض اللعين من صمم وهزال ...كان يأبى إلا إذا يكون أول المطلعين على أحوال مملكته الصغيرة وآخر المضطجعين وهو يرقب سلوك الصغير والكبير...أتذكر في كل مرة كنت ألملم حقيبتي رغبة في الرحيل إلى البقاع الأخرى من وطني الحبيب تقاسيمه, فأقرأ في نظراته هدوءا تخامره لوعة الفراق , فيسكِّن فيَّ روعتي وحنيني إلى حضنه كلما اشتقت حس الصبا....أحسست فجأة أني أصبحت كبيرة عن العناق وكلمة "الله يرضى عليك" .....أدركت أني صرت مسنة تتعقبها أيدي الزمن لتنذرها أن ما من مجال للدلال, فقد حان وقت النضوج والثبات الذي كنت أحجبه في قرارة خلدي ....لم ينفع البكاء ولا النحيب... فقد غمرت هضبات أضلعي دموعا لن تجففها مناديل ...وألم بخاطري يأس وقنوط لن تشفيه سعة الفضاء ولا امتداد بساط الأديم ,خرجت أخفر السبيل علي أجد وسيلة تنقلني إلى دمنات لأشد الرحال إلى مدينتي التي تبعد بعشر ساعات عنها ...لكن هيهات هيهات فالنقل في هذا الدوار اللعين يتوقف بعد حراكه بساعة, فبمجرد أن تدق الساعة الثامنة صباحا يتوقف أزيز المحركات وتنعدم الوسيلة إلى حيث تقبع الحياة....بدأت أشد شعري وأندب وجهي من غصة الوجع الذي ألم بحياتي التي ستنقلب رأسا على عقب ...واااااااااااااااااااااااأحر قلباه كيف السبيل إليك يا حبيبا تقت تقبيل جبينه قبل الرحيل ؟كيف أشارك أهلي الأسى والشدة حتى أجد بعض عزاء؟ كيف أخفف وطأة الأنين الذي سكن فلذي؟....تمنيت لو كنت طائرا لأحلق الفضاء وأقطع المسافات حتى أقبل جبين أبي قبل أن يواري أطباق الثرى...كنت أتوق لو كنت أمتلك كبسولة الزمن لأكون بجواره, أحدثه عما كان يخالج فكري, وأطلب منه الصفح عن زلاتي التي لم يسلم من وجعها صدره الذي تألم كلما رأى بجفني دموعا سببتها الألسن الآثمة وأنا أجر أذيال الوهن لأضمن كسرة خبز لأسرتي اليتيمة تحت ظل أب أرقده السقام.... كان الغد الموالي لوفاة والدي الحبيب يوم خميس يوازي السوق الاسبوعي في دوار ايسولان بايت امديس , لتكون النكبة نكبتين, إذ تحج كل وسائل النقل نحو السوق وبقية الدواوير ...لكن القدر شاء أن مرت ترانزيت من طريقي وهي تقل أساتذة 3 غشت المرابطين بالجماعات المجاورة قصد استلام أول راتب ...ركبت مطأطأة الرأس حتى لا أكشف عن ملامح كآبتي وأتجنب فضول البعض وشفقة البعض الأخر, لكن سيل الأنداء الذي خط وجنتاي والوشل الذي تربص بجفني كان كافيا ليفضح حرقتي السجينة بسويداء جوفي المكلوم ...لا أخفيكم أمرا أني كنت أحتاج عزاء يخفف عني بعض الوطء , لكن حبل صوتي تمزق من صراخ ونحيب طوال ليلة وأنا أنتظر بزوغ الفجر الذي أبى إلا أن يأخذ نصيبه من رحم العتمة , زد على ذلك أني لست على طبيعتي,فصوتي المبحوح لا يقوى عن إفصاح أو أخذ ورد في الحديث...... بلغنا دمنات ثم أزيلال لأقيع في أحد كراسي محطته أنتظر وسيلة نقل تقلني بني ملال, فالوقت ظهيرة ومراسيم الدفن قد تمت بدوني وأنا أتجرع سم الحسرة وأمزق أوصال خلدي الذي غاب في حبائل ومعاقل كلومه..... شق السبيل إليك يا أبي ....اغفر لي بعد المسافات وقلة حيلتي.... اطلب الهداية لمشغليي أن قذفوا بي آخر البقاع وجوار بلدتي تحتاج مثيلاتي ليعمرن بها خصاصة ...اصفح سبب بعادي فأنا لا أفقه سياسة مدبري شأني فأنا نقطة في بحر انشغالاتهم,لا يهمهم إن كنت أكفل أسرة أو أرملة ...فلأذهب إلى الجحيم أو أغرق في يم مالح حتى لا تعكر سناخة همومي صفاء سمائهم...... وصلت مدينتي وقد جن الليل وعم الصمت أرجاءها ,أظنها تعلن الحداد على فقيدها, فأنا أحسدها أن شهدت مسيرة تشييع جنازته وهو يُحمل صوب مثواه الأخير ليعانق الثرى ...كنت أهمس بمسامع ليلها القاتم أتوسله دعوة الرحمان أن ينزل السكينة على مرقده , وأن يجعل قبره رياض جنان تنسيه كمد الأدواء وألم العلل التي لازمته حينا من دهر .... دخلت المنزل وقد سرت به رهبة السكينة فقد أصبح خاليا من أنفاس سندها الذي رحل دون استئذان إلا من بعض الأهل الذين لازموا أمي الحبيبة التي وقفت باب غرفتها لأجدها مدرجة في دموعها وهي تلتحف رداء أبيض زاد من شحوبها ومن مخاوفي أن ارتميت في حضنها وأنا استجدي دموعا جفت في المقالي, وأعتصر صراخا سكن في جوفي الذي لم يمنحني غير عويل غاب عنه الصدى .........من مذكرات ليلى الذهبي