كل من ولج فصلا من فصول مدرسة تعليمية ، ولو لفترة وجيزة في حياته ، لاشك يحتفظ في أعماقه بذكريات قوية كانت أو ضبابية ، تطفو على السطح كلما حل موعد الدخول المدرسي ، كما هو حالي مع كل دخول مدرسي ، حيث تتبادر إلى ذهني ذكريات من أيامي الأولى في المدرسة ، تمر أمام عيني بحلوها ومرها ، وتتقاطع وتتلاحق صور أول مدرسة عمومية ولجتها في الستينات القرن الماضي ، بحي فاس الجديد بفصولها وساحاتها وتلامذتها ومعلميها والأساتذة ، الذين أحببت العديد منهم وانبهرت ببعضهم ، ونفرت من البعض الآخر ، خلال تلك الأيام الحلوة بشخوصها وزملاء الفصول من قدامى التلاميذ الذين تحولت زمالة بعضهم إلى رفقة خلقت مع البعض الآخر صداقة تعدت أسوار المدرسة لتصبح علاقات وطيدة خارج أوقات الدراسة ، ومن بين الذكريات التي لا أنساها أبداً وتبقى مرتبطة وجدانيا بذهني الطفولي ، ولا تفارق ذاكرتي التلميذية مهما تقدم بها العمر وتباعدت المواعيد ، وعلى رأسهم كلها ، تلك الشخصية صاحبة الرسالة الانسانية النبيلة ، رمز البدل والعطاء ، وعنوان نشر العلم والمعرفة ، وبناء الأنفس وإنشاء العقول ، وأداة تخليص الإنسانية من ظلمات الجهل والأمية ، تلك الشخصية التي طالما رددنا في حقها مع أمير الشعراء أحمد شوقي قوله الشهير:
قم للمعلم وفيه التبجيل §§ كاد المعلم أن يكون رسولا .
لقد مضت سنوات طويلة دون أن انسى الكثير من المعلمين الذين تتلمذت على أيديهم منذ مرحلة الصفوف الأولى “بمدرسة درب الزاوية ذكور” الابتدائية “، والذين كانوا لي ولبقية أترابي خير مثال في التضحية والإخلاص وتحمّل المسؤولية وحب الوطن والوطنية ، الذين لازالت صور بعضهم ماثلة في ذاكرتي ، شامخة لا تغيب لحظة ، وخاصة منهم ، “مسيو السوسي ” كما كنت أسمعهم ينادونه ، ذاك المعلم القوي الشخصية الذي درَّسَنَي مادة الحساب والفرنسية في الأقسام الابتدائي الأولى ، والذي كنت وزملائي نهابه ونحترمه في نفس الآن ، نظرا لكفاءته وطيبوبته التي طبعت نفسياتنا ببصمته الخاصة ، التي اعتقد اعتقادا راسخا ، أنها كانت وراء محبتي للتعليم ، واختياري لها كمهنة دون سواها من الوظائف التي كانت متوافرة بكثيرة في ذاك الزمان ، والذي يحتفظ له جميع التلاميذ ، باعتراف وجميل خاصين ، على عواطفه الجياشة ، وتَميُزَه بطريقة تعليمية خاصة ، استطاع بها تحويل كل المعوقات إلى حوافز ، وتفتح المجال رحبا أمام المتعلم لكي يوظف إمكاناته وقدراته للتعلم ، وتدفع بعقولنا المتعثرة منا – وما أكثرهم بيننا أنذاك- الى التفكير والقدرة على استكشاف المعلومة واستيعابها ، حسب القواعد التفكير العلمي ، والتي مكنت الكثيرين منا من التفوق وولوج مستويات تعليمية عليا أو الالتحاق بسهولة بعالم الشغل .. ما زاد من احترامنا له وتقديرنا لمكانته.
كم أنا ممتن للمنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم “اليونيسكو” التي أقرت يوما للاحتفاء بمعلمي العالم المخلصين ، ومن خلالهم معلمي العظيم “مسيو السوسي” الذي كان يبذل زهرة عمره ليعلمنا بغير أن “يتعالم” علينا ، والذي يستحق مع غيره من المعلمين ، كل التكريم والتبجيل اليومي والدائم ، بذل الاحتفال بهم -مع الأسف الشديد- بيوم وحيد كل عام ، وكأننا لا نتذكر المعلمين إلا في يوم يتيم ، في الخامس من أكتوبر من كل سنة . فالمعلم أكبر وأعظم من أن يكفيه يوم واحد في السنة ، لأنّ من ينسى معلمه –كما يقال-لم يكن متعلما وإنما كان مجرد طالب شهادة وأوراق” ، والحمد لله ان العالم بأسره ، أو أكثريته على الأقل ، كان من المتعلمين النجباء الذين جبلوا على حب العلم والمعلمين والاحتفاظ بذكريات تكرم كلّ مدرّسيهم ، في كل آن وحين ، وليس في اليوم العالمي الوحيد للمعلم ، والذي يقره ويحتفل به الجميع في كل بلدان العالم التي تجل المعلم منذ العام 1994 ، مع بعض الاختلاف في التوقيت وطرق الاحتفال بينها ، حيث اتخذت غالبية الدول -خاصة في الغرب- يوم 5 أكتوبر من كل عام مناسبة لتكريم معلميها ، بينما اختارت دول أخرى مواقيت أخرى مرتبطة بأحداث وطنية مهمة تتعلق بالتربية والتعليم في بلدها ، كما هو حال البيرو مثلا ، التي اختارت 6 يوليو للاحتفال بمعلميها لأنه يصادف ذكرى تأسيس أول مدرسة سنة 1822 ، و تحيي أندونيسيا هذه المناسبة يوم 21 نوفمبر بمناسبة ذكرى تأسيس جمعية المعلمين الأندونسيين ..
وكما اختلفت بلدان العالم حول توقيت الاحتفال بالمعلم ، فقد اختلفت كذلك حول طرق الاحتفال ومظاهره ، حيث نجد أنه في الفلبين ومن حيث الفعاليات فقد تقدم مجموعات من الطلبة التهاني والتبريكات إلى مدرسيهم مرفقة بالأغاني والرقص فضلا عن إلقاء الشعر والخطب ثناء وشكرا للمربين إلى جانب تنظيم الرحلات مع المدرسين…
أما في سنغافورة فهو عندهم يوم إجازة رسمية يسبقه احتفال في النصف الثاني من دوام اليوم السابق له ، ولعلّ نموذج كوريا الجنوبية حريٌّ بأن يتبع حيث تبدأ الاحتفالات بزيارات خاصة من التلاميذ للمدرسين المتقاعدين وخاصة المرضى منهم .. أما في التايوان والولايات المتحدة الأميركية ، فإن الطلبة يعربون عن عرفانهم وتقديرهم للمعلمين بزيارات أو إرسال بطاقات وتقديم بعض الهدايا الرمزية ..اما في أفغانستان فإن ” اليوم العالمي للمعلم ” تتعطل فيه الدراسة ويلتقي فيه الطلاب والمعلمون في المدارس وأولياء الأمور يتناولون الطعام والحلوى ويتبادلون الهدايا.
ويعبر التلاميذ الصينيون عن امتنانهم لمعلميهم بتقديم الورود والبطاقات والهدايا. أما في جامايكا؛ فإن الآباء والطلاب يقدمون الهدايا إلى المعلمين وتغلق المدارس أبوابها في النصف الثاني من يوم الاحتفال.
وإذا انتقلنا إلى عالمنا العربي والمغاربي الذي اختارت العديد من بلدانه تاريخ 25 فبراير، كيوم عالمي للاحتفال بالمعلم العربي ، والذي نجد –مع الأسف الشديد – أنه يمر فيها مرّ الكرام ، دون أن يشعر به حتى المعلمون الذين لا يحتفلون هم أنفسهم بيومهم العالمي ، كما نجد أيضا ، الكثير من الهيئات والجهات ذات العلاقة بالتربية والتعليم ومن بينهم جمعيات الأباء ، لا تهتم بتكريم هذا المعلم في يومه هذا ، وفي ذلك تحجيماً لصورة المعلم وتقزيماً لها في المجتمع.
فإليك يا معلمي مني تحية زكية في عيدك ، وهنيئا لك على تأدية رسالتك الإنسانية الوطنية على أحسن وجه ، وكل الإكبار والتبجيل لك ، ليس في يومك العالمي فقذ ، بل في كل آن وحين إلى يوم الدين.
حميد طولست Hamidost@hotmail.com