بقلم: عبد الحفيظ زياني
تنبني المعرفة على حقائق تنطبق مع واقع الوجود، باعتباره محكا، ويزكيها العقل، كمصدر من مصادرها، فهي ليست مطلقة، بل شبه ثابتة، تحتكم إلى معايير تختلف من فرد لأخر، ومن بيئة لأخرى، فقد تعتمد العلمية والموضوعية، البعيدة عن الحواس، كما قد تعتمد الذاتية والقيمية، أو ما يصطلح عليه بالمعيارية.
لذا فالمعرفة ترتبط بالأحكام، ارتباطا وثيقا، وهي نوعان: أحكام علمية، وأحكام قيمة.
فالأحكام التي تعتمد المعيارية، والذاتية، تغلب عليها الأهواء والنزوات، وفي أحيان كثيرة تكون حبيسة خلفيات أو انتماءات ضيقة، وهي كلها عوامل تخلق حواجز أمام اعتماد المنهج العلمي الموضوعي، هي بالضبط ما يطلق عليها أحكام القيمة، وتعبر عن تقييم شخصاني بتوجهات ومقاييس فردية تختلف باختلاف الميول وطريقة التفكير، فإنها تبتعد عن الصواب والدقة، وتسقط في النسبية و يطغى عليها طابع العموميات.
فأما تلك التي يتحرى أصحابها الدقة في المنهج، والمطابقة للواقع, وعلمية السيرورة، وفصل التفكير عن العاطفة، بتبني الحواس منطلقا للأحكام، وليست محكا لمقياس مدى درجة صدقها أو خطئه، فهي تعرف بأحكام الواقع المتسمة بالدقة والنجاعة .
إن ما يمنح المغزى والدلالة لأحكام المعرفة لتتسم بصفة الموضوعية والعلمية، هو تفاعل عالم الأفكار في شكل منظومة شمولية تلعب دورا أساسيا في تصحيح الإدراك وتقويمه.
لقد نشأت المعرفة بطرق عدة, ثم تطورت ونمت وأصبحت أفكار يتم تداولها في شكل منظومة قوانين، وأنماط شبه جاهزة، فمتى كانت الأحكام التقييمية بصددها تستمد من العلمية كأسلوب، والواقعية كمنهج، والموضوعية كحقيقة، كانت المعارف شبه ثابتة وقارة، أما إن سيطرت أحكام القيمة، فالمعرفة أنداك تصبح خاضعة للآراء والرغبات، فتكون غير مستقرة، فتتغير بتغير الأحاسيس والأقوال والأفعال .
يعد العقل مرجعا للقياس، ومنتجا للمعارف والأفكار، وآلية لتقييم الأشياء, وكافة المعارف تتكون انطلاقا منه، بمعية الحواس والتجربة، ليزكيها الواقع، فيعترف لها بالصحة أو الخلل، فيتم إصدار الأحكام بشأنها إما بالاعتماد على المعيارية والذاتية، التي تعتبر عائقا أمام الصواب، وإما بتغليب الموضوعية والواقعية، فتتسم بسمة العلمية، وكلها عوامل تتفاعل مجتمعة لتنتج الحقائق التي يكرسها التداول والاعتقاد، لذا فالعملية تبدأ من إنتاج الأفكار و بناء المعارف، وصولا إلى إصدار الأحكام كمنهج للتقويم .
من دون شك، فالمعرفة الإنسانية تختلف باختلاف الأسس والمبادئ، وتعتمد أساليب الصياغة، وموجهات للأحكام، ومعايير للتقييم، تتنوع بتنوع الثقافات والخلفيات، الشيء الذي يجعلها، في جميع الأحوال، تسقط في الذاتية والقيمية، فعالم الأفكار كثيرا ما يتسم بالخلط والبعثرة بسبب سيادة الأهواء والنزوات على حساب العلمية والموضوعية .